للإستقلال عيون ترعاه وسواعد تحميه
22-11-2008
• مقدمة
في عيد الاستقلال، تعود بنا الذاكرة إلى حقبة مجيدة من تاريخ الوطن، حين وقف اللبنانيون صفاً واحداً في وجه الانتداب الأجنبي، يتحدون القهر والطغيان، ويبذلون الدماء في ساحات الحرية والكرامة. وأمام روح التضحية والصمود والثبات التي ترسخت في نفوسهم يوماً بعد يوم، لم يكن للانتداب بدّ سوى الانصياع لهدفهم المقدس في تحقيق الاستقلال، الذي طالما شكل حلم أبناء الوطن، والأمل النابض في عروق أجياله على امتداد الأزمنة والعصور.
وبعد أن أصبح هذا الحلم واقعاً وحقيقة، ابتدأت مسيرة الحفاظ على الاستقلال والتي واجهت بدورها تجارب قاسية، كادت ترسم أكثر من علامة الاستفهام حول سلامة الكيان ومصيره، لكن أمانة الاستقلال كانت دائماً في أيدٍ أمينة، يحملها جيش راسخ الإيمان برسالته، مدرك لمسؤولياته، متفانٍ في أداء واجباته حتى الشهادة.
ويطل عيد الاستقلال على اللبنانيين هذا العام مزهواً ببزوغ فجر عهد جديد، عهد فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان، الآتي من المؤسسة العسكرية إلى رحاب الوطن الواسع، ليحيي شعلة الأمل في النفوس، ويحقق في فترة زمنية قياسية إنجازات مشرقة، على طريق إنقاذ لبنان وخلاصه. ويطل العيد أيضاً على وقع تجديد المؤسسة العسكرية انطلاقتها، بتولي العماد جان قهوجي سدة قيادتها، وهو القائد الذي تمرّس على تحمل الصعاب ومواجهة المخاطر، وخبر ميدان التضحية والعطاء طويلاً، حتى بات يعرف كل شبر من تراب الوطن، ويدرك إلى أدق التفاصيل قدرات الجيش وحاجاته، إنه القائد الذي تحتاجه المؤسسة ليشد ساعدها ويمضي بها إلى غدٍ واعد بحصاد وفير.
1ـ فجر الرئاسة
بعد نحو ستة أشهر من الفراغ الرئاسي الذي عاشته البلاد نتيجة التجاذبات السياسية الحادة، انبلج فجر الرئاسة في الخامس والعشرين من شهر أيار بانتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، في ظل إجماع رسمي وشعبي وترحيب إقليمي ودولي، لم يسبق لهما مثيل، فأطل عهد جديد على الوطن، تلقفه اللبنانيون بمظاهر الفرح والابتهاج التي عمّت لبنان من أقصاه إلى أقصاه، واستعادوا من خلاله نبض الأمل على وقع كلام فخامة الرئيس في خطاب القسم، والذي بدأه بتوجيه تحية إلى أرواح الشهداء قائلاً: "كان أحب إلى قلبنا أن يبدأ هذا الاستحقاق بدقائق فرح، لكني واثق بأن صمتنا ستهلل له أرواح شهدائنا وهم في جوار ربّهم، كونه يؤسس لمرحلة واعدة لأبناء الوطن الذي ينهض من كبوته، بفعل وعي المواطنين ورفضهم الوقوع في عملية قتل الذات، وعمل المخلصين والأشقاء للتخفيف من السيئات، ومحو التداعيات". وأضاف:"إن لبنان، وطن الرسالة، والذي يحمل تلاقي الحضارات، وتعددية فذّة، يدفعنا للانطلاق معاً، في ورشة عمل، فنصلح أوضاعنا السياسية والإدارية، والاقتصادية والأمنية، ونعيد الوطن إلى الخارطة الدولية في دور نموذجي يعكس فرادته، واشراقته المعهودة".
2ـ العماد قهوجي إلى سدّة القيادة
بعد انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية اللبنانية، تسلم رئيس الأركان اللواء الركن شوقي المصري قيادة الجيش بالنيابة لفترة امتدت نحو ثلاثة أشهر. وبتاريخ 29/8/2008 اجتمع مجلس الوزراء في القصر الجمهوري برئاسة فخامة الرئيس، حيث تقرر ترقية قائد اللواء الثاني العميد الركن جان قهوجي إلى رتبة عماد وتعيينه قائداً للجيش اعتباراً من تاريخه، فجاء هذا التعيين تأكيداً على ثقة فخامة الرئيس، ومجلس الوزراء مجتمعاً، بشخص القائد الجديد، وتقديراً لمسيرته المشرقة في خدمة المؤسسة، التي احتضنته منذ ربيع الشباب، فاحتضنها بالقلب والعقل، ووهبها أغلى سنوات عمره.
أ ـ احتفال تسليم وتسلم قيادة الجيش ـ أمر اليوم الأول.
الأول من أيلول شكل نقطة انطلاق المؤسسة العسكرية إلى مرحلة جديدة، فبحضور أمين عام المجلس الأعلى للدفاع وأعضاء المجلس العسكري، وأركان القيادة ورؤساء الأجهزة التابعة لوزارة الدفاع الوطني وقادة الوحدات الكبرى، أقيم في اليرزة حفل تسليم وتسلم قيادة الجيش، بين اللواء الركن شوقي المصري مسلماً والعماد جان قهوجي متسلماً. وبعد أداء مراسم الاحتفال اللازمة، وفقاً للقوانين والتقاليد العسكرية، ألقى العماد قائد الجيش كلمة أمام الحاضرين، شكر فيها اللواء الركن المصري على حفظه الأمانة بكل جدارة ومسؤولية، ثمّ عرض بعضاً من توجهاته للمرحلة المقبلة قائلاً:"لم أصل إلى سدة القيادة من أجل تغيير المفاهيم والمبادئ الأساسية التي قامت عليها المؤسسة، فأنا من المدرسة نفسها، وابن النهج والثوابت عينها، ومن الفريق الذي رافق القيادة وعمل معها. ما أطمح إليه هو تطوير آلية العمل ورفع قدرة الجيش عدة وعديداً، والاستفادة القصوى من التطور العلمي والتقني الذي يشهده عالمنا المعاصر، وكذلك الاستفادة من تجارب الجيوش المتقدمة وخبراتها، مع التمسك الدائم باستقلالية أداء المؤسسة الذي ينبع من مصلحة الوطن العليا من دون سواها، والى جانب ذلك، سأسعى دائماً للحفاظ على حقوق العسكريين، ورفع مستوى التقديمات المادية والاجتماعية لهم". وأضاف:"إن ولاءنا الواحد والنهائي، يجب أن يكون للبنان، وعلينا أن ندرك ونؤمن بأن وحدة الجيش هي صمام أمان وحدة الوطن، وفي حرصنا على هذه الوحدة، نعبّر أسمى تعبير عن وفائنا للقسم، ووفائنا لدماء الشهداء وآلام الجرحى والمعوقين، الذين بذلوا الغالي والنفيس إيماناً بالرسالة والتزاماً بالواجب، فلا تفريط بتضحيات هؤلاء الرجال الأبطال تحت أي ظرف كان".
وفور تسلمه قيادة الجيش وجه العماد قهوجي إلى العسكريين أمر اليوم الأول، معبراً في خطوطه العريضة عن رؤيته لتفعيل أداء المؤسسة العسكرية وترسيخ دورها الوطني، ومما جاء فيه:"إن أنظار اللبنانيين شاخصة إليكم في هذه المرحلة المثقلة بالتحديات، فهناك عدو على الحدود ما انفك يستهدف الوطن بأسره، وهناك إرهاب في أكثر من منطقة يزرع الرعب والخوف في النفوس، لذا يجب ألاّ نسمح بأن تمتد أيادي الغدر والعمالة إلى جسم الوطن الذي لا يزال ينزف، وعلينا مضاعفة الجهود لوقف هذا النزف". وأضاف:"أراني اليوم أجدّد القسم الذي آمنا به جميعاً والتزمناه منذ بداية الطريق، وفي يقيني أن الوفاء لهذا القسم وتجسيده إلى حقائق وأفعال مثمرة، يكون بالحفاظ على إرث المؤسسة الذي صُنع بفضل دماء رفاقكم الشهداء وتضحياتكم الجسام، كما بالإخلاص للنهج القويم الذي أرسى دعائمه وحدّد معالمه فخامة الرئيس، لذا علينا مواصلة البناء على ما تحقق من إنجازات، متطلعين نحو المستقبل بكثير من الأمل والتصميم على دفع مسيرة تطوير المؤسسة قدماً نحو الأمام، لكي تبقى هذه المؤسسة مثالاً رائداً يحتذى به. ومن موقعي، أعاهدكم اليوم، بألاّ أدّخر جهداً في سبيل تعزيز قدرات الجيش عديداً وعتاداً وتدريباً، إضافة إلى استثمار مكامن القوة لدى الشعب اللبناني، وصولاً إلى المستوى المنشود الذي يلبي طموحاتكم، ويؤهلكم للقيام بواجباتكم الدفاعية والأمنية على أكمل وجه". وتابع مخاطباً العسكريين:"أنتم ذراع الشرعية وحماة مؤسساتها، وفي التفاف المواطنين حولكم أبلغ تعبير عن الثقة بدوركم المستمد من الإرادة الوطنية الجامعة، فلا تنحنوا أمام الصعاب مهما اشتد وزرها، ولا تجعلوا أي انقسام سياسي ينعكس على مؤسستكم. تشبثوا بوحدتكم التي تعمّدت بدماء الشهداء، شهداء الجيش ولبنان".
ب ـ خطوات واعدة
تولى العماد قهوجي قيادة الجيش في الوقت الذي كانت فيه البلاد تشهد تطورات سياسية كبيرة، وأحداثاً أمنية متنقلة بين منطقة وأخرى، إضافة إلى تسارع وتيرة التهديدات الإسرائيلية ضد لبنان. فكان الهم الطاغي لديه هو معالجة الوضع الأمني بأقصى سرعة ممكنة، وتعزيز مقومات صمود الجيش على الحدود الجنوبية. وانطلاقاً من ذلك، عقد سلسلة اجتماعات مع أركان القيادة وقام بعدة جولات ميدانية على الوحدات العسكرية، حيث أعطى أوامره وتوجيهاته بوجوب تشديد التدابير الأمنية وتعزيز قوى الجيش لا سيّما في منطقتي الشمال والبقاع، والتصدي بكل قوة للعابثين بأمن المواطن، الأمر الذي أسهم بصورة فعالة في ترسيخ أجواء المصالحات بين الفرقاء السياسيين، وإعادة الهدوء والاستقرار إلى أماكن التوتر. ومن الإنجازات النوعية التي تحققت في هذا الإطار أيضاً، تمكن الجيش بجهد مشترك مع قوى الأمن الداخلي من توقيف عددٍ من أفراد الشبكة الإرهابية الضالعة بتنفيذ الانفجار الذي استهدف الحافلة العسكرية في محلة البحصاص ـ طرابلس بتاريخ 29/9/2008 وما سبقها من تفجيرات. وكذلك تمكنت مديرية المخابرات في منطقة البقاع من توقيف عناصر ينتمون إلى شبكة تجسس وإرهاب متورطة بالتعامل مع العدو الإسرائيلي.
أما على الصعيد الداخلي للمؤسسة فقد بادر العماد قهوجي إلى اتخاذ مجموعة من الإجراءات الإدارية، أبرزها إصدار تشكيلات الضباط التي شملت عدداً كبيراً من المراكز القيادية، والغاية من ذلك، هو بعث روح الحيوية والنشاط في جسم المؤسسة وإطلاق دينامية جديدة في عملها.
ج ـ جولات ولقاءات
لم تكد تمضي أيام قليلة على تعيينه قائداً للجيش، حتى انطلق العماد قهوجي مجدداً إلى الميدان الذي أتى منه، يجول على الوحدات العسكرية المنتشرة، ليطلع عن كثب على مهماتها وحاجاتها، ويشد من عزائم العسكريين، ويغرس في نفوسهم روح الصمود والتضحية.
في جولته الأولى على الحدود الجنوبية خاطبهم قائلاً:"إن الهدف الأساسي للجيش كان وسيبقى حماية الوطن وتحرير ما تبقى من أرضه المحتلة، واعلموا أن خطر العدو الإسرائيلي يدعونا للحذر الدائم، نظراً لأطماع هذا العدو التاريخية في ترابنا ومياهنا، ولطبيعته العنصرية التي تشكّل النقيض الواضح للكيان اللبناني، ولصيغة العيش المشترك بين أبنائه".
وفي جولته على منطقة الشمال قال:"إن الحفاظ على الأمن والاستقرار في منطقة الشمال، والمساهمة الفعالة في عملية نهوضها وإنمائها، يمثلان جزءاً من الوفاء لهذه المنطقة التي شكلت منذ تأسيس الجيش ولا تزال، خزانه البشري والدم النابض في عروقه، مقدمة خيرة رجالها قرابين طاهرة على مذبح السيادة والكرامة الوطنية، ولا يمكن أن ننسى على الإطلاق وقوف أبنائها صفاً واحداً إلى جانبه في مواجهة الإرهاب، وتعاليهم على كل الاعتبارات الفئوية والسياسية الضيقة، وهذا الموقف هو صفحة مشرقة في تاريخها، وهو دين في أعناقنا جميعاً، نقابله بالوفاء والبذل من دون حساب".
من جهة أخرى، وفي إطار التواصل والتعاون بين الجيش والمجتمع اللبناني، كان للعماد قهوجي سلسلة من اللقاءات مع هيئات مدنية، أبرزها، لقاؤه مع الجسم الإعلامي اللبناني، الذي جرى في اليرزة بحضور ممثلين عن مختلف وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، حيث ألقى كلمة قال فيها:"إذا كان دور الجيش هو الضمانة المباشرة والسريعة للحفاظ على الاستقرار العام في البلاد، فإن هذا الاستقرار يبقى عرضة للمخاطر إن لم يرتكز على قاعدة صلبة يوفرها إجماع اللبنانيين على القضايا الوطنية الرئيسية، وتوافقهم على معايير شفافة وعادلة لإدارة شؤونهم وتحقيق تطلعاتهم، وإذا لم يرتكز كذلك على دعم قوي من المجتمع المدني وفي طليعته قطاع الإعلام، نظراً لما له من دور فاعل في التأثير على الرأي العام وتوجيهه". وأضاف:"إن أكثر ما نحتاج إليه لحماية لبنان من العواصف التي تتهدده باستمرار، هو تنشئة الأجيال على مبدأ الولاء الوطني، وترسيخ القناعة في نفوس اللبنانيين، بأنّ لا مكان لهذا الوطن تحت وجه الشمس بمعزل عن وحدة أبنائه وتمسكهم بصيغة العيش المشترك، المستندة بدورها إلى قاعدة الحقوق والواجبات وفكرة قبول الآخر، واحترام قيمه ومعتقداته وحرياته التي كفلها الدستور والقانون".